![]() |
"داعش" صدام؟.. القصة الحقيقية لأصل المجموعة الإرهابية Daash |
تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" والمعروف أيضاً باسم "داعش"، ربما يقوده أبو بكر البغدادي، وربما يكون قد انبثق عن "تنظيم القاعدة في العراق"، لكن السؤال عمن هو المسؤول بالضبط عن صعود المجموعة ما يزال موضوعاً للجدال.
وتضع إحدى الأطروحات التي تزداد شعبية اللوم في صعودها على الدكتاتور العراقي السابق صدام حسين. وكتب المدون كايل أورتون مؤخراً في صحيفة "نيويورك تايمز"، أن "أولئك الذين تولوا الأدوار القيادية في المجلس العسكري للدولة الإسلامية كانوا قد تطرفوا في وقت أبكر، في ظل نظام السيد حسين". وقبل أورتون، صورت ليز سلاي، من صحيفة "الواشنطن بوست" صدام حسين كإسلامي، استناداً إلى تنشيط الممارسات الإسلامية خلال "الحملة الإيمانية" التي أطلقها في العام 1993، بل إنها قالت إنه روج للسلفية، النسخة الصارمة من الإسلام التي يمارسها "داعش" اليوم. وقال أماتيزا بارام، الذي ألف كتاباً عن صدام وعلاقته بالإسلام من العام 1963 وحتى 2007، أيضاً إن البغدادي هو "من خلق صدام حسين".
لكن هذه الأوصاف هي في الحقيقة غير دقيقة ومضللة على نحو خطير، كما توضح الوثائق الموجودة في أرشيفات سجلات حزب البعث في معهد هانوفر. ولم تجد دراساتنا العميقة لهذه السجلات أي دليل على أن صدام أو نظامه البعثي في العراق أظهرا أي تعاطف مع الإسلاموية، والسلفية، أو الوهابية. وقد حاول أنصار سرد الأسلمة هذا وضع تمييز بين المصطلحين الأخيرين، فقالوا إن النظام دعم السلفية، وإنما ليس الوهابية. ومع ذلك، استخدم النظام البعثي هذين المصطلحين كمترادفين، وكان عدائياً تجاههما بالمقدار نفسه. وفي إحدى المناسبات، أشار صدام إلى "الحركة الوهابية" في معرض تعليقاته على تقرير بعنوان "دراسة لظاهرة السلفية الدينية". كما أوضح صدام أيضاً نفوره العام من أي شكل من أشكال أسلمة نظامه، خاصة في خطاب تاريخي ألقاه في العام 1996، والذي هاجم فيه الإسلاميين ورجال الدين "ذوي الوجهين". وكان منتقداً بشكل خاص للأطروحات الدينية التي أنكرت الحاجة إلى الوحدة العربية، ودعت بدلاً منها إلى وحدة إسلامية. ورفض صدام ذلك صراحة، وقال إنه "لا يجوز الانخداع بهذه الحيلة". ولاحظ أن النظام يرى نفسه أكثر توافقاً من الناحية الفكرية مع "الجيل الجديد" من "الناصريين في مصر واليمن، الذين ترتكز دعوتهم إلى التأسيس المخلص... للقومية والنضال من أجلها". وقد استمرت القومية العربية، وليس الإسلاموية، بتوجيه سياسات النظام، حتى حول القضايا الدينية نفسها. وتبين في سجلات النظام أن كل عضو في حزب البعث كان يقرأ خطاب صدام قراءة جهرية بصوت عالٍ، وكان الهدف منه هو أن يكون أساس سياسات النظام تجاه الجهات الدينية.
تنسجم مكتشفاتنا هذه مع أعمال مهمة أخرى تتضمن البحث في أرشيفات "حزب البعث العراقي". وعلى سبيل المثال، وجد الباحثان جوزيف ساسون وآرون فاوست أن النظام لم يكن ينطوي على تعاطف مع أي نوع من السلفية أو الإسلاموية. ويلاحظ سياسون في العام 2001 أن وزير الأوقاف والشؤون الدينية "عقد اجتماعاً حضره أكاديميون، وقادة دينيون، وممثلون عن مختلف الأجهزة الأمنية، لمناقشة الوهابية -كيف تتم محاربتها وكيف يتم إظهار أن تعاليمها ليست لها أي صلة بالإسلام الحقيقي". وبالمثل، يكتب فاوست: "على مدى التسعينيات، حظر البعث الكتب الإسلاموية السنية؛ وعزل الوعاظ والأئمة السنيين عندما اكتشف لديهم ميولاً إسلاموية؛ ولم يسمح للإسلاميين بالتدريس في المدارس الدينية؛ ونزع عنهم الأهلية لدخول الجيش، والتدريس، والأكاديميات العلمانية الأخرى".
إحدى الحجج الرئيسية التي تدعم فكرة "صدام أعطانا داعش" هي أن قدامى المحاربين في جيش صدام وأجهزة مخابراته هم الآن أعضاء في "داعش". ولا ينبغي أن يكون هذا مفاجئاً. فمنذ العام 2003، انضم البعثيون السابقون إلى طيف متنوع من جماعات الثوار، وليس "داعش" وحده. ثم غيروا ولاءاتهم مع الوقت وفقاً للمناخ السياسي -بشكل أساسي نحو أولئك الذين اعتقدوا أنهم يمكن أن يستولوا على السلطة بنجاح. ومثل آخرين عبر التاريخ، أوضح العراقيون بشكل متكرر أن لديهم قدرة هائلة على التكيف مع الظروف الراهنة والإذعان للإيديولوجية السائدة. وكان الدكتاتور الإيطالي السابق، بينيتو موسوليني، بعد كل شيء اشتراكياً قبل أن يصبح فاشياً، وأصبح بعض النازيين لاحقاً شيوعيين في ألمانيا الشرقية، أو ديمقراطيين رأسماليين في ألمانيا الغربية. وحتى سيد قطب؛ أحد أكثر المنظرين الإسلاميين إثارة للجدل في القرن العشرين، ظل متأثراً بخلفيته السابقة في الاشتراكية الماركسية.
كما أن الأطروحة القائلة إن صدام دمج سياساته البعثية مع سياسات إسلاموية أو سلفية أبكر غير صحيحة أيضاً. ويشير مؤيدو هذا السرد إلى اجتماع عقده صدام في العام 1986 مع القيادة العليا لنظامه، والذي أعلن فيه وقفاً لإطلاق النار وإقامة تحالف تكتيكي مع بعض الإسلاميين خارج العراق، وفي مقدمتهم الفروع السودانية والمصرية لجماعة الإخوان المسلمين. ويقول أصحاب هذه الأطروحة إن هذه الحادثة تشكل رحيل صدام الواضح عن البعثية وتحوله باتجاه الإسلاموية. صحيح أن صدام أكد في الاجتماع عقد تحالف تكتيكي مع هذه الجماعات الإسلامية، ولكن، وكما تكشف سجلات مركز أبحاث سجلات الصراعات، فإن هذا لم يكن تخلياً عن سياساته السابقة. وكانت للبعثيين العراقيين تحالفات تكتيكية مع جماعة الإخوان المسلمين السورية منذ أوائل الثمانينيات على الأقل، إن لم يكن في وقت أبكر. ومع ذلك، استمروا في قمع الفرع العراقي للحركة. وبالمثل، تحالف النظام مع الأحزاب الشيوعية خارج العراق، بينما ظل يقمع الحزب الشيوعي العراقي. وبالنظر إليه على هذه الخلفية، فإن قرار دعم الفروع السودانية والمصرية من الإخوان المسلمين لا يشكل بالضبط رحيلاً إيديولوجياً. كما بيَّن صدام بوضوح أيضاً أنه على الرغم من هذا التحالف التكتيكي، فإن إيديولوجيته البعثية ليست متوافقة مع الإسلاموية، بالنظر إلى أن رؤيته فضلت "الدولة القومية والاشتراكية"، بينما دعت الأخيرة إلى إقامة "دولة إسلامية". وبالإضافة إلى ذلك، دعم مؤسس الحزب البعثي المسيحي، ميشيل عفلق، التحالف التكتيكي مع الإسلامويين غير العراقيين. ومع أن البعثيين يزعمون أن عفلق اعتنق الإسلام على فراش الموت، فإنه غالباً ما يتم تصويره على أنه "حصن ضد الأسلمة" عندما كان حياً.
على الرغم من أن دعم نظام صدام للمجموعات الإسلامية الأجنبية، مثل حماس وحركة الجهاد الإسلامي المصرية موثق جيداً، فإنه كان مدفوعاً استراتيجياً أيضاً. وقد دعا صدام بعض المقاتلين الإسلامويين الأجانب لمساعدته في معارضة تحالف القوى الغازية في العام 2003. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن جماعات الإسلاميين، كما هو الحال في السودان، كانت متحمسة لصدام حتى العام 2003، تكشف تقارير المخابرات العراقية أنها كثيراً ما أبدت غضبها من أنه على الرغم من دعمهما القوي للعراق، فإن بغداد استمرت في دعم القومية العربية العلمانية. ولاحظت تقارير المخابرات العراقية حتى وقت متأخر، هو العام 2000، مشاعر الغضب في أوساط الإسلاميين السودانيين من استمرار صدام في تمويل حزب البعث السوداني "القومي العربي العلماني".
محلياً، عارض صدام أيضاً الإسلاموية وأولئك الذين يروجون أي نسخة من الإسلام غير نسخته الخاصة. وفي الحقيقة، وجدنا أن سجلات حزب البعث العراقي تضم آلاف الصفحات من التسعينيات وأوائل الألفية الثالثة عن سياسات النظام تجاه القادة الدينيين في العراق. وكان البعثيون ثابتون بلا رحمة في محاولاتهم تعقب و"تحييد" أي شخص يعرض أقل إلماح إلى عواطف سلفية وإسلاموية. وفي الواقع، وعلى مدى التسعينيات، احتفظ النظام بجداول بيانات تضم أسماء كل قائد إسلامي في كل جامع. وطلبت أمانة الحزب من الفروع المحلية، التي وضعت تلك الجداول، إيلاء انتباه خاص للمنتسبين إلى "السلفية، والوهابية، والإخوان المسلمين". وعلى مدى التسعينيات، ضبط النظام أيضاً منظمات أجهزته الأمنية بدقة، وقام بإنشاء أقسام خاصة للتعامل مع جماعات الإخوان المسلمين، والوهابيين، والإسلامويين الشيعة المختلفين. وهناك أطروحة أخرى تقول إن صدام كان يطبق قانون الشريعة، عندما قطع رؤوس المومسات، وأيدي اللصوص، وألقى المثليين من فوق أسطح المباني؛ لكنه ليس هناك أي دليل في السجلات البعثية على أن النظام طبق قانون الشريعة في العراق. وكان الذي يطبق هذه أعمال الوحشية هو القوات شبه العسكرية التابعة للنظام، مثل "فدائيو صدام"، والتي كان معظمها، كما تشير سجلات النظام، من الشيعة الفقراء الذين يعتبرهم "داعش" زنادقة ومرتدين. ومع أن عناصر من وحشية النظام كانت تشبه سلوك "داعش" البدائي اليوم، فإنها يمكن أن تُفهم أفضل باعتبارها تطوراً للقسوة التي ميزت الحكم البعثي في العراق. ولم يكن هناك دافع إسلاموي يقف خلفها.
عندما عزز البعثيون الإسلام فعلاً كجزء من "الحملة الإيمانية" على المستوى الوطني، فقد أشاروا بشكل رئيسي إلى نسخة مخففة من الإسلام، والتي كانت دائماً جزءا من الإيديولوجية البعثية، وكانت متوافقة مع أجندة القومية العربية أيضاً. وعلى سبيل المثال، هناك تقرير لحزب البعث في العام 1997 تحت عنوان "خطة للتلقين الثقافي والممارسات الدينية للحزب"، والذي سرد الكتب التي يجب استخدامها في الدورات البعثية حول الإسلام. وكانت أربعة من الكتب الخمسة الأوائل في القائمة تعود إلى أواسط القرن العشرين، وكانت من تأليف ميشيل عفلق. وكان الكتاب المتبقي من تأليف صدام نفسه، والذي كان قد نشر في العام 1977، قبل وقت طويل من تحوله المفترض إلى الإسلاموية في العام 1986. كما يشير التقرير أيضاً إلى أن أهدافه كانت تقوية الحركة القومية، وتعليم هذه القومية، الذي سيخفف من الانقسام والطائفية، ويفضح زيف وبهتان الدعوات إلى استخدام الإسلام كغطاء لثورة البشرية.
بعيداً عن أن يشكل تحولاً في الإيديولوجية، أعاد المنهاج الذي تم وضعه خلال "الحملة الإيمانية" التأكيد ببساطة على سياسات البعث القديمة تجاه الدين. وعبر صدام عن رغبة في إعادة تفعيل هذه الآراء البعثية التي تعود زمناً بعيداً وراءً إلى السبعينيات، لكنه لم يكن حتى التسعينيات حين طور نظامه قدرة مؤسسية على تعليم نسخته من القومية العربية وهيكليته الأمنية لضمان أن لا يؤدي القيام بذلك عن غير قصد إلى مساعدة الحركات الدينية المعادية. وكان نضوج هذه القدرات، وليس التحولات الإيديولوجية، هو الذي شكل أساس "الحملة الإيمانية".
ليس تصوير "داعش" على أنه نتاج لسياسات صدام غير صحيح فحسب، وإنما يقلل أيضاً -وبشكل خطير- من الدور الأساسي الذي لعبته حرب العام 2003 في العراق في تطور وتحول الجماعات المتشددة النشطة في داخل البلاد. وقد أدى الغزو الذي قادته الولايات المتحدة وحركة التمرد التي نجمت عنه إلى تدمير الدولة العراقية، وكذلك النظام السياسي العراقي، وأشعل الحرب الأهلية، على نحو أسفر عن صعود الحكم الطائفي التقسيمي والتطلعات الاستبدادية السلطوية لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي في نهاية المطاف. وكما لاحظ الباحث توبي دودج، فإن "المالكي يقوم بنشر رسالة طائفية مشفرة. إنه يسعى إلى توسيع الشعور بالذنب عن الانتهاكات التي ارتكبت باسم حزب البعث إلى كل القسم السني من المجتمع، باستخدام اللوم بالتبعية عن كل العلل التي لا تعد ولا تحصى في عراق الماضي والحاضر". ويشكل "داعش" عرضاً من أعراض دولة مكسورة ونظام سياسي مكسور، واللذين ظهرا منذ العام 2003.
بينما تكافح إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لتطوير استراتيجية فعالة لمحاربة "داعش"، فإن من الحاسم فهم جذور التنظيم الحقيقية -من تحول سابقاته، "أنصار الإسلام" و"جماعة التوحيد" (الجماعات العاملة في العراق قبل الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في العام 2003)، إلى "القاعدة في العراق" (المجموعة التي أعادت تسمية نفسها لتكون "الدولة الإسلامية في العراق" في العام 2006). ومن المهم بالمقدار نفسه معرفة كيف أن اندماج هذه المجموعات المتمردة، التي أصبحت "داعش" في نهاية المطاف، أصبح ممكناً بفعل التطورات السياسية التي جرت في العراق من العام 2010 فصاعداً والحرب الأهلية السورية التي بدأت في العام 2011. وتشكل الروايات التي تربط بين البعثية والسلفية عامل إلهاء فقط، والذي يمنعنا من فهم "داعش" وتطبيق الدروس الصعبة التي تعلمتها الولايات المتحدة في حربها ضد أسلاف "داعش" خلال حرب العراق.
إرسال تعليق